mercredi 23 mars 2011

ينادون بإسقاط النظام الطائفي،

عندما خرج مئات المواطنين إلى الشارع منذ ثلاثة أسابيع ينادون بإسقاط النظام الطائفي، سياسيون قلائل هم الذين انتبهوا لحركتهم، ومن رآهم ابتسم مشفقاً على من تكفل عناء السير، بلا جدوى، تحت المطر الغزير من مار مخايل إلى العدلية.
عندما أصبحوا بالآلاف في تظاهرة 6 آذار التي ربطت بين مستديرة الدورة وشركة الكهرباء في الجميزة، اتسـعت العين لترى أن مطالب جدية يحملها هؤلاء، وأن حركتهم ليست فولكلوراً، أو مجرد تقليد عبثي.
في التظاهرة الثالثة، ومع خروج 20 ألفاً من كل أطياف الشعب اللبناني، لا طوائفه، صار الهمس الرسمي مسموعاً بأن ثمة أناسا لهم مطالب حقيقية لا تمت للانقسام السياسي والطائفي الحالي بصلة. «الشعب يريد إسقاط النظام الطائفي»، عنوان لمطالب لم يعد بالإمكان التغاضي عنها.
الكتل النيابية تنظر إلى ما يجري بعين الدهشة. يستغرب نوابها كيف تداعى كل هؤلاء إلى الشارع بانضباط تام وبدون أعلام حزبية أو شعارات فئوية، وعلى نفقتهم الخاصة. يبحثون في ثنايا تظاهراتهم عن شبهة سياسية أو وجوه طائفية أو دوافع فئوية. بعضهم يكيل الشتائم لـ «محركي هذه التظاهرات»، وبعضهم الآخر يسلم بأحقية المطالب متحفظاً عن التوقيت وأهداف ما وراء التظاهر.
في البرلمان أصوات تسمع من هنا وهناك تجتمع على لازمة هي لزوم ما لا يلزم: هذه خطوة مهمة والمطالب كلنا نؤيدها. بعد ذلك تكر سبحة الاستدراك. تتكرر «ولكن» عشرات المرات، معبرة عن الموقف الحقيقي الذي لن ينجح معه أي طنين أو أزيز يزعم أنه يؤيد إلغاء الطائفية. هؤلاء يصعب عليهم أن يروا قضية يناضل من أجلها الشباب بعيداً عن الانقسام الحالي. يصرفونها في معركة السلاح أولاً وأخيراً. قوى «14 آذار» بطائفييها وعلمانييها ترى أن مفتاح الإصلاح في البلاد هو السلاح، «ومن بعده يخلق الله ما لا تعلمون»، ومعظم قوى «8 آذار» يوحي بأنه يؤيد إلغاء الطائفية الذي سيؤدي حكماً إلى حماية البلد وسلاح المقاومة.
رعب الأقليات
ألا تشكل هذه الظاهرة اللاطائفية التي تملأ شوارع بيروت والمناطق فسحة لإصلاحات قد تتخطى الاصطفافات الحالية؟ الجواب من المعارضة الحالية: «قوى 8 آذار تختبئ وراء اندفاعة الشباب وتقود التحركات بدعم واضح من رئيس مجلس النواب نبيه بري»، بحسب النائب أحمد فتفت. زميله أمين وهبي الذي يعلن أنه فخور بالشباب، يرى أن عليهم «أن يدركوا أن المدخل الوحيد للتغيير هو في جعل السلاح بإمرة الدولة».
المواقف لم تقف عند هذا الحد. النائب نديم الجميل لا يتردد، من منطلق خوفه على الأقليات وشبهته بإدارة التظاهرة من فريق معين، أن يعلن أن «المطالب المطروحة ليست شريفة». الضمانات للأقليات تجمع النقيضين في السياسة. فالنائب سيمون أبي رميا، يخشى أيضاً على الأقليات الطائفية ويدعو إلى طمأنتها من أن أي تغيير لن يكون على حسابها. وبعيداً عن خشيته هذه، يبدو متحمساً لما يقوم به الشباب. وفقاً لهذا المبدأ هو لا يكتفي بتأييد شعار إلغاء الطائفية، بل يضيف إليه الدعوة إلى العلمنة.
لـ«حزب الله» الذي لا يزال صائماً عن الكلام، رأي غير مباشر، فنائب غير حزبي من «كتلة الوفاء للمقاومة» يرى أن أي ابتعاد عن الطائفية والتشنجات الطائفية في البلاد هو حكماً لمصلحة المقاومة. وفي سبيل هذه الغاية يجزم بأن «حزب الله» يؤيد حكماً إيجاد قانون انتخابي غير طائفي أو على الأقل استحداث كوتا من النواب تنتخب على أساس غير طائفي، بالاضافة إلى الموافقة على قانون مدني اختياري. ويسأل: ألا تعتبر هذه الطروحات رداً واضحاً على كل اتهام لـ«حزب الله» بالطائفية. بالنسبة لكتلة التنمية والتحرير فإن خير من يعبر عن رأيها هو الرئيس نبيه بري المتهم بالوقوف خلف التظاهرات وأنه كان من أول الداعمين لإلغاء الطائفية السياسية، إلا أن بعض حلفائه يطالبونه بتخطي هذا الموضوع، لا سيما انه سبق لبري أن وافق على مشروع قانون الزواج المدني الاختياري عندما طرح قبل أن يرفض الرئيس الشهيد رفيق الحريري التوقيع عليه.
بغض النظر عن آراء هذه الأطراف ومواقفها، الثابت حتى الآن أن المتظاهرين لا يصدقون رموز النظام الطائفي مهما أيدوا مطالبهم أو عارضوها، ومهما شككوا بمصداقيتهم أو أهدافهم أو وثقوا بها. وهم متأكدون من أن هذه الطبقة ستقف حكماً بوجه من يسعى إلى تغييرها. أما الحديث عن مهادنة أو تفاوض مع أركان النظام الحالي، فهو لا يزال غير مطروح حتى الآن، ويخضع لوتيرة التحركات المستقبلية.
يبتسم بعض النواب لهذا التوجه، فيما يدعو آخرون لتجربتهم والتأكد من نيتهم الصادقة في العمل على تغيير النظام، أو على أقل تقدير تطويره لأن بقاءه على حاله يحمل في داخله نواة انفجاره، بعدما وصلت أزمته إلى ذروتها.
كل من يحاول شد النقاش النيابي الحالي إلى موضوع تغيير النظام الطائفي كقضية وطنية مستقلة وطليعية تتفوق على القضايا الممجوجة التـي تغرق بها البـلاد مـنذ سـنوات، سيفشـل في مسعاه. فنـواب الأمة لا يرون في الموضوع، الذين يؤكدون على أهميته، إلا سبباً إضافياً من أسباب الفراق. يكيلون الاتهامات لبعضهم البعض ويعود السلاح إلى الواجهة.
«تحية للشباب... ولكن»
نقاش سيبدأ من رأي الكتل النيابية بالتظاهرة. النائب سيمون أبو رميا يؤكد تأييده الكامل للتظاهرات، «لا سيما اننا سئمنا من أن يخلق الطفل رهينة لطائفته ويبقى رهينتها عندما يتعلم ويعمل ويتزوج». في المقابل، يبدي عتباً على من رفع من المتظاهرين شعارات تجرح بكرامات الزعماء الحزبيين، لا سيما أن الشعب اللبناني بأكثريته لديه التزام حزبي. ويخصص أبي رميا العماد ميشال عون بدفاع خاص، مذكراً بأن الميثاق التأسيسي لـ«التيار الوطني الحر» يدعو إلى العلمنة.
النائب في كتلة الوفاء للمقاومة يفاجئك (من دون أن يذكر اسمه) بتأكيد حاسم أن هذه التحركات مهمة جداً لسببين، الأول لأنها تؤدي حكماً إلى تخفيف الاحتقان الطائفي والمذهبي المفتعل وتعزز الوحدة الوطنية، وتفتح الطريق نحو حلول لأزمة النظام السياسي اللبناني. وثاني الاسباب أن كل توجه نحو ايجاد فسحة من التوحد السياسي والاجتماعي، سيصب حكماً في اتجاه وفاقي يعزز المقاومة، عبر إقامة مجال جديد للعمل السياسي يخدم المقاومات العربية، ويفشل السعي الاميركي الدائم إلى تعزيز الفرز والفتن في المجتمعات العربية والاسلامية.
وفيما يعلن عضو كتلة المستقبل النائب أمين وهبي («اليسار الديموقراطي») افتخاره بما يقوم به الشباب الرافض للطائفية، يحاول إسقاط تجربة الحركة الوطنية على تحركهم، ليستنتج أن التحرك الحالي يكرر أخطاء الماضي عبر عدم وجود خارطة طريق، مؤكداً أن التغيير عبر «البيان الرقم واحد» سقط تاريخياً. ويضيف: على الشباب إيجاد آلية عمل واضحة، إذ ان التغيير لا يحصل بكبسة زر. كما يتطلب أولاً وجود استقرار أمني وسياسي يترافق مع حريات ديموقراطية مسؤولة.
يتطور الموقف عن فئوية التظاهرة مع نائب «المستقبل» أحمد فتفت الذي بالرغم من تأكيده أهمية الخطوة والشعار المرفوع، إلا أنه يشكك في خلفية التحرك. وهو أمر يوافق عليه النائب الكتائبي الشاب نديم الجميل، الذي يؤكد أهمية المطالب. ولا ينسى الاشارة إلى أن الحزب من دعاة الدولة المدنية بكل تفاصيلها، هذا من حيث الشكل، لكن من حيث المضمون يرى الجميل «بوضوح» أنها تدار من فريق سياسي معين وفي مناطق معينة. ويعترض، كما زميله أبي رميا، على رفع شعار «حلوا عنا»، كما لو ان هذه التظاهرة هي لإلغاء الاحزاب أو بعضها، مستغرباً غياب «الزعيم الطائفي الاول ووكيل الولي الفقيه» عن اللائحة. ويرى أن التظاهرة تمس بكرامة الشعب الذي ناضل واستشهد من اجل هذا الوطن، ليستنتج ان «المطالب ليست شريفة»، لا سيما ان «توقيتها من مصلحتهم، ووجوهها تنتمي إلى فريق واحد». وللاشرفية حصة من كلام الجميل الذي لاحظ أن أهلها لم يشاركوا في التظاهرة التي انطلقت من منطقتهم!
بين العلمنة وإلغاء الطائفية
أبعد من التظاهرة وشكلها والترحيب المشكوك فيه، يتفق الجميع على أنهم من موقعهم النيابي لم يقدموا على شيء يوحي بأنهم تنبهوا على الاقل إلى خطورة النظام الطائفي، قبل الحديث عما أنجزوه لتخفيف وطأته. وإذ يحيل هؤلاء السبب إلى الأزمات المتلاحقة التي لم تسمح حتى بالتقاط الانفاس، ما هي خطة عملهم في الفترة المقبلة، إذا وُجدت، لحفظ ماء الوجه؟
يتفق أبي رميا والجميل على ضرورة طمأنة الاقليات الطائفية الى أن أي خطوة على طريق إلغاء الطائفية، يجب ألا تكون على حساب هذه الاقليات بحيث تسيطر فئة على أخرى. فيما يرفض وهبي الامر معتبراً أن هذه الفكرة نابعة من وهم، بعدما أثبت أن لبنان مؤلف من مجموعة أقليات لا غلبة فيها لأحد على آخر.
ويرى أبي رميا أن المطلوب العمل على التأسيس لمجمع علماني بالتدرج عبر برنامج تربوي متكامل وقانون جديد للأحوال الشخصية، ثم قانون انتخابي حديث، ليخلص إلى ضرورة التأسيس لإلغاء الطائفية من النفوس كي لا تكون الأكثرية العددية متحكمة، وهنا تقع المسؤولية على المسلمين الذين عليهم أن يقدموا الضمانات إلى المسيحي. ويخلص إلى أن الدستور الحالي غير صالح ليكون قاعدة انطلاق لتغيير النظام الطائفي. ويخالفه الجميل الذي يؤكد، في هذا السياق، أولوية تطبيق اتفاق الطائف وإنشاء مجلس الشيوخ وإقرار اللامركزية الادارية لحماية الاقليات ومن ثم إلغاء الطائفية.
وقبل هذه الخطوة أو تلك، لا بد، بحسب الجميل، من وجود وطن سيد حر مستقل، وهو لا يمكن أن يتحقق في ظل وجود سلاح فئوي.
«لا للسلاح» عنوان يجمع الجميل إلى فتفت ووهبي، الذي يسأل كيف يمكن أن تلغي الطائفية عندما تكون الطوائف مستنفرة، معتبراً أن زوال هذا الاستنفار يتطلب تعزيز الدولة عبر ضم السلاح إلى الدولة. أما فتفت فيبدو حاسماً باقتناعه بأن لا إمكان للاصلاح بوجود السلاح الذي استطاع فرض وقائع مغايرة لنتائج الانتخابات النيابية لمرتين. ويبدي اقتناعه بأن أي انتخابات مقبلة في ظل وجود السلاح هي نعي للديموقراطية.
النقاش بعود مجدداً إلى الاولويات، بين من يرى أن وطناً لاطائفياً يمكنه أن يؤسس لحل كل الخلافات، وبين من يرى أن السلاح يحجب إمكان رؤية أي حلول منظورة لتطوير للنظام.
النائب غير الحزبي في «كتلة الوفاء» الذي يقدم نفسه «مقربا» من «حزب الله» يقدم رؤية مغايرة لكل ما سبق من أفكار. وهي رؤية قد تشكل انقلاباً في الصورة النمطية المرسومة عن الحزب. فالحزب العقائدي الذي قد لا يختلف اثنان على طائفيته، يرفض هذه الصفة مصراً على التمييز بين الطائفية والتديّن. وهو إذ يؤكد على تديّنه يبدو مقتنعاً بأن المؤسسات الحالية أظهرت ما يشبه العقم عن ايجاد حلول لتجاوز الازمة الراهنة التي يغلب فيها الانتماء الطائفي على الانتماء الوطني، مؤكداً أن البداية لا بد من أن تكون من هنا. ويذكّر بأن الوثيقة السياسية للحزب تدعو إلى الدولة المدنية، وهو ما ورد أيضاً في وثيقة التفاهم مع «التيار الوطني الحر». ويضيف النائب إليها إمكان النقاش بمسألة الدولة المدنية شرط أن يتفق اللبنانيون على مفهوم موحد للمدنية. ويفتح عضو كتلة الوفاء النقاش على مصراعيه، مؤكداً موافقة المقاومة على اقرار قانون للزواج المدني الاختياري، وقانون موحد للاحوال الشخصية. كما يجزم بأن الاولوية تبقى لقانون انتخابي جديد، مقترحاً أن يتضمن مثلاً انتخاب عدد محدد من النواب خارج القيد الطائفي.
وسط اختلاف الاولويات بالنسبة للجهات السياسية المؤلفة للمجلس النيابي بين السلاح أولاً او الاصلاح أولاً، يبقى الامل معقودا على تصاعد الحركة وكثافة المشاركين فيها والرهان على قدرتها على كسر الحلقة المفرغة لنظام سياسي عاجز.

as-safir