jeudi 17 février 2011

LA REVOLUTION TUNISIENNE

الثورة التونسية المجيدة على ايقاع بيتين من أبيات الشاعر التونسي الخالد أبي القاسم الشابي
عبدالرزاق القلسي
\16q-7.htm

لست أدري أية اضافة مهمة منحها الشاعر التونسي الكبير أبو القاسم الشابي للشعرية العربية حينما نطق ببيتيه المدهشين الجليلين ' اذا الشعب يوما أراد الحياة / فلا بد أن يستجيب القدر/ ولا بد لليل أن ينجلي / ولا بد للقيد أن ينكسر'، وأي غنى أكسبه للغة الضاد بهذين البيتين اللذين طبقت شهرتهما الآفاق وأصبحا صوت الثوار الباحثين عن الحرية وخطاب المتمردين على الظلم والاستبداد.
حقا انهما لبيتان من الشعر المتفرد في بنائه وفي لغته وفي أسلوبه. هما بيتان ينطق بهما الثوار في المنبسطات ـ تونس على سبيل المثال ـ وفي التضاريس الوعرة - الجزائر أثناء ثورتها الكبرى ـ وفي أعالي الجبال وفي الكهوف وحيثما تعلقت همة الانسان بقيمة الحرية. كل الثوار، معتدلين كانوا أم متطرفين، عقلانيين ام حالمين، وجدوا في شعر الشابي التعبير الامثل عن عشقهم للحرية وعن حلمهم الذي لا يحده حدود بالانعتاق من الظلم والتحرر من الخوف والتخلص من الظالمين، أفرادا كانوا أم مؤسسات، ليدونوا بأنفسهم تاريخا مختلفا عن التاريخ السائد. هذا الشعر زفير المظلومين وأنفاس التائقين الى مدائن الضوء ـ بحسب عبارة أدونيس - ، انه كالتعويذة التي لا تفارق شفة المؤمن أثناء المصائب والفواجع وهو أيضا كالأيقونة التي تشيع في النفس احساسا جميلا بالعدالة وبالسلام الروحي وبالحكمة التي لم يزدها التاريخ الا ثباتا ورسوخا.
الشعر الوطني العربي غني بالقصائد الوطنية الصادقة فلأمير الشعراء ابداع موسوم بقدر كبير من الجمال والرقة والعذوبة وهو الذي كان شاهدا على ثورة 1919 في مصر، وللرصافي شعر يستنهض به عزائم العراقيين ويتعالى بهم عن فوارقهم الاثنية والمذهبية، بل إن لمحمود درويش في شعر المقاومة نماذج تعد من أجود ما قيل في شعر المقاومة العربي والإنساني ... ومع ذلك يظل بيتا الشابي المذكوران متفردين الى أبعد حد ممكن، قويين مزلزلين بما يمنحه في انفس الثائرين من قوة مضافة ومن صبر على الشدائد ومن قدرة على تحمل الأذى والظلم الى أقصى درجات التحمل والى النقطة التي يتحرر فيها الانسان من الخوف ومن الرعب من سطوة الظالمين المستبدين.
وفي الاحداث الاخيرة التي بشرت بها الثورة التونسية المجيدة لوحظت استعادة لشعر الشابي، وبقدر ما اشتد أوار هذه الثورة وامتد لهيبها، تضاعف حضور الشابي مع كل الشعارات الاخرى التي رفعت، وفوقها ومتميزا عنها، فهو يخلو من ايديولوجيا تقسم الناس وتصنفهم الى مذاهب، وهو يتسامى عن منطق التحزب السياسي ليكون لسانا جامعا لكل جموع الثوار من سيدي بوزيد وصولا الى شارع الحبيب بورقيبة حيث وقع الحسم النهائي لمعركتهم الفاضلة وحيث استجاب القدر الاستجابة المدوية الصارخة.
هذه الجموع الهادرة من الشباب تحفظ شعر الشابي عن ظهر قلب، وفي المناهج المدرسية يدرس هذا الشاعر بوصفه رومنطقيا وبوصفه وطنيا. وتغتني مادة العربية بشعره اغتناءها بالمتنبي أو المعري. ولكن الفارق الكبير أن في شعره طاقة خفية أو دعوة إلى الحركة، وبشرى إلى الخلاص الممكن. لم ينظم الشابي هذين البيتين ليقرأهما قارئ واحد للشعر أعزل أو منفرد وإنما للجموع المحتجة والمعارضة والمناضلة ففيهما روح ملحمية أصيلة تولدت إيقاعيا من هذه القدرة الفائقة الكامنة في تفعيلة بحر المتقارب ' فعولن' والتي هي بالمناسبة الأقرب إلى روح شعر محمود درويش حيث نظم ديوانا بأكمله وهو ' سرير الغريبة' على إيقاعه.
بحر المتقارب هو من البحور الطويلة ويضم 8 تفعيلات لأجل ذلك. وكما أثبت جاكبسون ذلك في حديثه عن بحوث كهذه يحتفي بالملاحم وبالنزعات الانتصارية وبروح المقاومة التي تذهب بعيدا في فرض كلمتها.
وهذا البعد يقوي في الأنفس حركة التقدم إلى الأمام غير مبالية بحجم المواجهة ولا بعنف اللحظة ولا بقسوة الظالم، كما أن هذا البعد يسهم في التقاط الجموع لأنفاسها قبل الانخراط مجددا في الاحتجاج الجماعي المنظم. المؤكد ان هناك شعارات جديدة طفت في خضم المواجهات يسارية - وإن كانت من دون مشروع يساري - وإسلامية - وإن كانت لا تحتفي بالضرورة بكل الحريات التي من أجلها اندلعت هكذا ثورة. ولكن الأكثر تأكيدا أن جميع الأطياف وجدت في ' إذا الشعب يوما...' ما يمحو تناقضاتها. هو اذن بيت من الشعر فوق الايديولوجيا وهو أيضا خصم عنيد لكل الشعارات المؤدلجة أو تلك التي تتصف ببعد ميكافيلي ولكن الأهم من ذلك جميعا انه يسمو بكل المتظاهرين الى ذرى من الوحدة النادرة والاجماع الامثل في لحظة تاريخية
واعدة بالحرية.
ففي هذا الخضم البشري اختفت من الوعي البصري رايات اليمين واليسار أو ظلت هامشية لان المقام لا يسعها ، واحتفى الوعي السمعى بالنشيد المزلزل لـ ' اذا الشعب يوما أراد الحياة ...' وبدا ـ مجازا - وكأن روح الشاعر الكبير هي التي تقود هذه الجموع الثائرة نحو هدفها الحتمي مثلما بدا ـ حقيقة ـ أن روح الشهيد محمد البوعزيزي هي التي تصوغ بياناتها السياسية الى كل من يهمه الامر.
من عادة الشعارات ان تكون مختزلة ومكثفة وفي أقل ما يمكن من المفردات.
ولهؤلاء الثوار التونسيين غير المعلومين اقتدارات بليغة في نحت الشعار حتى يستجيب لالزامات اللحظة وبالبيان المطلوب والدقة المباشرة. ومع ذلك يظل بيت الشابي متميزا بما أوتي من اقتدارات بلاغية ومن فيض في المعنى لا ابهام فيه ولا غموض كما أنه لا يكون عرضة لتأويل يسفهه أو يطعن فيه. ويبدو ايضا ان هذه الابيات لا تصلح كما ذكرنا لكي يتلفظها رجل واحد أعزل ولا الحشود المتحركة او المتقدمة نحو عدوها بل هي تقتضي نوعا من الوقوف - على نقيض الشعارات الاخرى ـ ولهذا الوقوف اجلال للذات الصامدة الصابرة المتوثبة فكل قسمات الوجه وحركات اللسان تعبر عن معنى الصمود بما تمنحه عبارة ' اذا الشعب ...' من وثوق بالنفوس من يقين في النصر ومن تهيؤ الى ولوج المرحلة القادمة.
ان البيتين المذكورين لم يصلا الى افواه الناس بسهولة فلقد كان الشابي عرضة للاتهام في دينه ومعتقده. وكان بعض علماء جامع الزيتونة المعمور وفقهائه قد اساؤوا في فهم المعنى الكامن فيهما بدعوى ان الشابي قد تجاسر على ما لم يتجاسر عليه أحد قبله، أي أن تكون الارادة الالهية محكومة بالارادة الانسانية. ولم تلق هذه القراءة الفقهية صدى لدى جموع المتلقين ولعشاق الشعر اللذين سرعان ما انتبهوا الى الجماليات البيانية والى عمق الدلالة. ومن منفذ الجمال اللغوي والسحر البياني وجدت هذه الابيات طريقها لدى الجموع الثائرة حتى تمنح لحضورها غير المبرمج المعنى الفكري والخلفية الفلسفية المتولدة من هذه اللحظة القصوى من العطاء الانساني من اجل قيم الحرية.
ان ما يمكن ان نتبينه في هذا المقام هو ان دخول البيتين معمعان الثورة التونسية قد اتى لكي يحسم امرا في غاية الاهمية وهو ان الاحتجاج لن يكون على الخبز وعلى المطالب المادية المباشرة او على اضافة دولار او دولارين كل يوم وانما على الافكار والمثل العليا والمفاهيم الكبرى التي تبني الامم بها نفسها وتشكل وعيها على امتداد عقود من السنين القادمة. ان مناط الاحتجاج والثورة قائم الان على الحريات والحقوق والكرامة ومنزلة الانسان في ' ان يكون او لا يكون' بحسب العبارة الشكسبيرية القديمة، فـ ' ارادة الحياة' لم تعد محكومة بالخبز ـ على اهميته ـ وانما على ما هو ابعد من ذلك واعظم خطرا وخطورة، في التاريخ الراهن وفي التاريخ الذي سيكون. وعلى هذا النحو كان لاوعي الابيات المذكورة وغيرها يشي بعشق الانسان التونسي والعربي الى كل ما هو انساني والى كل ما هو خلاق والى كل ما هو جليل من الافكار والرؤى التي ظلت تزدحم في الطبقات السفلى من عقله الباطن الى ان خرجت الى النور والى الواقع كالماء الذي ينبجس بين الصخور بعد طول احتباس. هذه الاحلام كانت كامنة في لاوعيه تنتظر شرارة الشهيد البوعزيزي وتتلقفها قصائد الشابي كما لو انها كتبت على ايقاعها ونظمت بوحي منها.
في المقرر المدرسي التونسي عشرات من القصائد لشعراء من مشارب وعصور شتى. ولكن هناك اربعة ابيات يعرفها كل التونسيين من دون استثناء تقريبا وهما بيتا الشابي المذكوران وبيتا عنترة بن شداد ' لا تسقني ماء الحياة بذلة ...' فثمة تطابق قوي بينها ولكن ما يميز شعر الشابي هو خلوُّه من اية نرجسية او اية محورية للذات فلا اثر للشخصنة او لحضور انا بعينها، انه مفتوح على كل الاصوات والانوات وهو متجاوب مع هدير الثوار القدامى وصرخات الثوار المعاصرين وبشائر الثوار الذين لم يولدوا بعد ممن سيعرفون أن للثورات وكما يقول ادونيس بعدا لغويا تداوليا يخلق خصيصا لها في ازمنة التحولات الكبرى والمصائر الكونية.
ومنذ اللحظة التي أصبح فيها البيت ' اذا الشعب يوما ..' ملكا لجمهور القراء وقع الانتباه حصرا على البنية التي تمثل مكمن قوته وعنصر فرادته وهي البنية الشرطية التلازمية والتي تجعل من قراءة البيتين المتعالقين أمرا تستوجبه القراءة بدافعية حتمية لا فكاك منها. ولهذا التلازم النحوي والمنطقي تبعاته المهمة ليس فحسب على صعيد القراءة وانما أيضا على صعيد حركة الجماهير في الواقع وتأثيرها على مجريات الامور، فهذا التلازم يجعل من ذلك البيت كما لو كان لسان المحتج وهو يتصادم مع قوى الظلم والاستبداد، وأداة المحاجج وهو يهفو الى الاقناع بصحة موقفه - أو أطروحته ـ بالدليل والبرهان. ان السببية الكامنة في هذين البيتين ـ من خلال الفاء ـ تخلق يقينا بان التفكير المنطقي والعقلي لم يغب تماما في اتون هذا الاندفاع الجماهيري وفي خضم الاصوات الجهورية وفي صميم الفوضى التي تسود الفضاء. نحن اذن ازاء بنية من الكينونة يتداخل في تشكيلها اللاوعي الجماعي بأقصى ممكنات التفكير المنطقي في أقسى اللحظات وأشدها عنفا على الذات.
يرد شعر الشابي في مثل هذه الظروف التي يندر أن تتكرر على لسان رجل واحد ومليون رجل في ذات اللحظة ليؤشر الى ان الاحداث ما زالت تحت السيطرة، سيطرة العقل الكامن في البنية التلازمية لهذين البيتين المشهورين، وسيطرة الحجاج على البنية الايديولوجية، وقبل ذلك وبعد سيطرة اليقين بصوابية الثورة وبمشروعيتها .
التونسيون يقرؤون هذه الابيات جيلا بعد جيل ولكنهم لا يستحضرونها ـ غالبا ـ الا في زمن الشدائد وفي عرفهم يظل من المعيب أن ينسى احدهم تلك الابيات، ولا ينساها الا ظالم مستبد ' حبيب الظلام عدو الحياة' كما يقول في احدى قصائده الاقل شهرة ورسالتها لا تقبل الحلول الوسطى ولا المنزلة بين منزلتين، وانما تتخذ في ذاتها بعدا راديكاليا لا يفهمه الظالم الا بعد الأوان، حتى وان كانت الحلول الراديكالية والعقليات القطعية غريبة في مجملها عن شخصية الانسان التونسي غربتها عن بيئته وطقسه وثقافته وممارسته لدينه. ولكن اذا ما لامست حركة الشهيد محمد البوعزيزي شيئا دفينا في أرواح التونسيين ودفعتهم الى الثورة، فان ' اذا الشعب يوما ...' قد لامست فيهم عقولهم ووعيهم واخترقت كالسهم أوجاعهم في لحظة زاخرة بالألم وبالمعاناة ولكنها مع ذلك واعدة بكل بشائر النصر لكل عشاق الحرية في البشرية جمعاء.
الان يستطيع الشابي أن يهنأ في قبره، وتستطيع هذه الابيات الساحرة المدهشة أن
تعود الى الديوان بعد أن انجزت مهمتها في تجييش المشاعر وتحريك الجموع نحو القيم البشرية الفاضلة وسيستذكر التونسيون فضائل شاعرهم الكبير بكل معاني الاجلال والمهابة استذكارهم للشهيد محمد البوعزيزي.